Cookies management by TermsFeed Cookie Consent راقصة الباليه على طريق الجبل (رقصة الحياة)

القائمة الرئيسية

الصفحات

راقصة الباليه على طريق الجبل (رقصة الحياة)

 

راقصة الباليه


راقصة الباليه

(همست زليخة بصوتٍ مرتجفٍ: إنّي أشمّ ريح يوسف. فسرت النّبوّة في شرايينها وأعياها صبر يعقوب حتّى التقى الثّلاثة في محضر الألوهة عند مذبح الصّبر.)

رقصة عذراء

   اغمضت عينيها العسليّتيْن إذا رأتهما الشّمس، واستدارتْ حول نفسها بخفّة، وهنا شعرت أنّ الهواء تحرّك من أخمص قدميها، عابرًا حوضها، فالرّئتيْن، مارًّا بقلبها المجنّح إلى الفضاء، ليعبر خدّيها مُلاطفًا جفنيها قبل أن يجد من أنفها مخرجًا، وكأنّ هذا النّفس لم يخرج بحقّ أو هو يتكرّر بكثافة دون وعي منها... فما زالت نفثاته الملائكيّة تبعث العطر الزّيزفونيّ في تجاويف الدّماغ، وتترك في االلّسان طعم الزّهور البريّة، إنّها باقات ولكن من الماء بين حالة التّبخّر والرّطوبة، فلا هو يسيلُ مثله ولا هو يتبدّد كالهواء.

   تدافعت الحركات من فكرٍ ثملٍ بكلّ تلك الرّوائحِ والعطورِ، بدافع السّعادة الرّاقصة على موجة الآن اللّطيف المخطوف من الوقت، فلا هو ثقيل ولا محمّل بغبار الذّكريات، فَرَدَت كفّيها كزهرة لوتس عامت فوق بركة، ثمّ مدّت ذراعيها اللّتين تحملان الزّهرتين في أعلى نقطة، فبدتا كأنّهما طيرًا واسع الجناح في وقفة انطلاق للتّحليق.

   وبدأت القدمان تعلوان بالتّوازي مع تلك الامتشاقة، حتّى استوتا على إصبعين!

وما إن صارت عصفورة النّهر مستوية الجناحين، مطبقة العينين ،منتصبة القدمين، حتى بدأت تعزف الألحان التي راحت تتدفق بلا توقف على منابع فكرها، فيزهو القلب من وقعها وهي تصعد وتهبط وتتقدّم وتتأخرُ وتدورُ وتدورُ في حلقاتٍ مرسومةٍ بعنايةٍ، فكلّما علت الموسيقى وتأجّجت صارت أسرع وكلّما خفّت وانطفأ وهجها صارت أبطأ وأهدأ.

ولم تتوقّف عن الرّقص البديع إلّا حين اختتمت المعزوفة آخر نبضاتها، فلا أدركت زمانًا ولا هي شعرت بالمكان، فهي إمّا فوق نهر، أو في فضاء.

 

طريق الجبل

    لا لم تعد ودودة تجاه الحياة بما يكفي، معاندة.. مستقلّة.. تبحثُ في كلّ مشهدٍ وقعت عليه حواسّها عن سببٍ وتفسيرٍ وإن أمكن عن حلّ.. وإن لم تجده فتسكن لرضى مؤقّت وتزجّه في أكداس الملفّات العالقة المؤجّلة لحين آخر.

   طريق من الشّوك لم تمهّده ورودٌ ولا رياحين. فالرّقصات العذراء استسلمت لعالم الطّفولة البعيد  الأغوار واستلقت هناك على وسادة حريريّة. أمّا هي فجثمت فوق حجارة مسنّنة، سالت دماء ركبتيها وانبعث الألم في شرايينها لذيذًا يسكّن جنون الأسئلة العظيمة.

   جالت عيناها في مرمى بصرها الضّئيل، فلم تجد أحدًا سواها هنا على الطّريق الوعر، هتفت:" أمّي.. أتسمعينني؟" فسمعت حينها صوت أمّها ولكن يا للدّهشة، إنّها في مكان آخر وهي تتكلّم معها بحديثٍ لا تفهمه أو لا تريد..تعاظمت الدّهشة والوحشة، وتضاعفت رغبتها في الصّعود إلى الجبل المهجور حيث لا أحد، ربّما لا أحد هناك. وابتسمت لأمّها بابتسامةٍ رقيقةٍ كأنّها تقول:" أنا هنا أسمعك ولكن بصعوبة دعيني أغادر كي اكتشف لغتي الّتي أفهم وسأعود إليك حتمًا حين أجدها."

    وكأنّ الأمّ شعرت بأنّ ابنتها مغادرة، لكنّ عجلة الحياة أخذتها في دورانها السّريع، وبقيّة أطفالها السّبع كلّهم ينتظرون، فكتمت دمعةً وعلامة تعجّب ومعها علامات استفهامٍ، كتمتها جميعًا في الخوف أو في النّسيان ومضت إلى الباقين لتكتم أيضًا ما اعتراهم من تلك العلامات وتحاول أن تتماشى مع تلك الحياة الدّائرة بسرعة جنونيّة.

     انطلقت ليا في رحلتها يتقاسمها الخوف والشّجاعة، التّردّد والإقدام، الشّكّ واليقين لكنّ الأخير كان الأغلب! فهي تعي تمامًا أنّ صوت النّداء الّذي تسمعه كلّ لحظة والّذي يتصاعدُ من فكرها وقلبها ووجدانها ما هو إلّا تأكيدٌ على أنّ راحتها لن تكون إلّا في عبور ما تصبو إليه روحها من معرفة ولو كان الثّمن غربة وألما.. فبريق ذاك النّور قد أضاء كلّ وجدان يعتريها ومن يرى النّور ولوبصيصًا منه  لن يرضى بالظّلام بعدها..

     وهكذا راحت تسير، وفي كل خطوة ترى سقوطًا لفكرةٍ كانت تشغلها، وبلمح البصر اعشوشبت الطّريق خضراء رغم إقبال الخريف، وكلّما توجّعت أكثر، وتعثّرت ووقعت، كلّما استطالت الأعشاب واخضرّت ونضُرت! فكان هذا المنظر ينسيها مشاعر الألم ويُأنسها في تلك الوحدة العظيمة الّتي لا تُشبه الوحدة في شيء إلّا غياب البشر.. كما أنّ راحةً كانت تسكنها بمجرّد هطول تلك الأفكار، " يا للسّعادة الّتي لا تنفكّ تهبط عليّ حتّي يبدّدها حزن مفاجئ آخر.. ألم يحن بعدُ موعد السّعادة الأبديّة؟"

الشّجرة الجدّة

الشجرة الجدة


       بعد مدّة مسيرٍ لمحت ليا شجرة عظيمة، كانت أكبر الشّجرات الّتي رأتها اليوم، ذكّرتها بجدّتها كما كانت تحلمُ أن تكون الجدّات! فاقتربت منها بوقار واستأذنتها بالجلوس بنظرة عطفٍ وبإيماءةٍ خجولةٍ، فاهتزّت بعض الأغصان إثر نسيمِ أيلولِ الزّائرِ تلك الأمداء، ففهمت ليا أنّ الجدّة الشّجرة موافقة. رمت بنفسها تحت الظّلّ الوارفِ بعد مسيرٍ شاقّ صعودًا، وحمدت الله من الأعماق على هذه الاستراحة الّتي أيقنت أنّها جاءت في وقتها ومحلّها بتقديرٍ حكيمٍ من أجل تلك الرّحلة المجهولة. ما إن فتحت ليا عينيها لتستطلع المكان حتّى سمعت حفيف الشّجرة يهمس لها:" إلى أين وصلتِ في رحلةِ البحثِ يا عزيزتي؟"

-         ظننتكِ تعرفين.

-         أنتِ ماذا تقولين؟ أريد أن أسمعَ جوابك.

-         وصلتُ إلى حيث تخلّيْتُ عن رقصتي الّتي أعشقُ، لكي أجد ما يشغل فكري وبالي، فتلك الرّقصة ناقصةٌ لأنّني أنا لم أعد تلك الطّفلة.. يا جدّتي هناك إعصارٌ يفتكُ بجمجمتي، أخاله الجنون، أهو جنون أم حكمة؟

-         لا تشكّي أنّكِ حكيمة ولا تخشي من سقطات الجنون الّتي ينزلق في وعورتها كلّ ساعٍ في هذا الطّريق، سأؤكّدُ لكِ شيئًا واحدًا ربّما يفرحك والباقي ستخبرك به الطّريق.

-         أخبريني (بشوق)

-         ستعودين تلك الطّفلة وسترقصين رقصة الحبور من جديد بل وأروع ممّا كانت عليه في السّابق.

-         حقّا..(بفرح) ولكن كيف؟

-         لأنّك ستكونين قد وصلتِ لينبوع المعرفة حينها ستتدّفق الرّقصات وحدها كتراقص الماء في الجدول وكتماوج السّنابل في الحقول.

-         شكرًا.. لقد جعلتِني أنسى آلام جراحي، وأدخلتِ السّكون إلى عروقي.

-         انظري يا ليا في تلك البركة هناك، وشاهدي بريق عينيك لقد عدتِ طفلة للتوّ..  لكنّ سحر ذلك سيتبدّد بعد هنيهة وأمامك الكثير بعد.. قرب البركة نبتة الطّيّون، اطحني بعضًا منها بحجرٍ برفقٍ، ثمّ ضمّدي بها جراح ركبتيكِ ولا تنسي أنّكِ ستعودين للسّعادة الّتي ترومين شرط أن لا تتراجعي أبدا..أبدا..

    تردّد صدى كلمات الشّجرة مع هبوب ريح المساء، فبدا ل ليا أنّ  الغيوم الرّاحلة وبتلات الورود وريش الحمام المتطاير وهلال القمر المولود كلّهم يردّدون معها أبدًا..أبدًا.. بدأت الطّريقُ تصبحُ أكثر صعوبةً، فهي لم تعد تفهم كلمات أمّها القريبة منها من عالمٍ آخر، ولم تعد تضحك لأيّة نكتة من نكات الجميع..  حتّى الطّعام صار قصاصًا لزامًا عليها أن تتناوله.. وبعدها تعود لطريق اللّيل المظلم، حاملةً تلك الهموم المتراكمة كالجبال، لا تسعفها سوى صلوات حفظتها من أمّها، وأدعية جميلة تطيّب خاطرها المكسور.. كانت تعي أنّ الجميع مدرك أنّها تعيش في عالم آخر، لا يشبه عالمهم المرح المتسارع .. الصّاخب والمزعج، وعندما يضنيها الطّريق كانت تتمنّى لو أنّها كانت مثلهم في تلك العجلة الدّائرة، فهم مرتاحون بينما هي تتجرّع أقسى أنواع العذابات.. لكنّ الدّموع الحارّة كانت تطفئ شمعة الأمنيات تلك على واقع محتوم: "هذا قدري."

ويا له من قدرٍ جميلٍ بحقّ..  لقد مرّت السّنون بسرعةٍ غير متوقّعة، وكانت ليا قد قطفت في تلك اللّيالي والنّهارات ما قطفته وهي تسلك طريقًا آخر من عالمٍ آخر تعيشه وتحياه سرًّا عن كلّ عين، فأدركت حينها أنّ القمّة لم تعد بعيدة.

  

سفينة النّجاة

     لم تترك المحبّة قلب ليا ولا عقلها في أيّة خطوة في طريقها، فهي كانت القنديل الّذي ينير عتمة اللّيالي، والصّراط الّذي يصوّب أيّة لفتة، أو حركة أو سكون، فقد كانت تحبّ كلّ الأشياء والأصدقاء والأعداء، حتّى إنّها كانت على استعداد لتحبّ أيّ شخصٍ اتّفق أن يشاركها أيّامها دون شروط كالّتي اعتادت أن تراها وتسمع عنها لدى العائلات.. فالمحبّة لديها إكسير حياة ونفس تحيا به..  "فكيف للمرء أن لا يحبّ!"

    وهكذا اختبرت مشاعر المحبّة بكلّ ألوانها، وما زادها ذاك إلا قربًا من هدفها المنشود الّذي وعدتها به الشّجرة ولكنّه كان قربًا خفيًّا..  فلقد نسيت ليا ما كانت تصبو إليه وانغمست في هموم الحياة تشقى وتتعب، تبكي وتضحك، تلهو وتقرأ، تتعلم وتُعلّم، تخفق وتنجح..  ظانّة أنّ ما كان من طريق هو حلم وانقضى ولم تك تدرك أنّ تلك السّفينة الّتي حملتها ها هنا إنّما تحملها إلى .. القمّة. لكم تنهّدت وهي في خضمّ أمواج الحياة :

" رحلتي ..أيّتها الطّريق الوعرة.. هل مضيتِ؟

أما كان منكِ ومنّي كان حلمًا.. كان وهمًا؟

أأنا الّتي نسيتُ أم أنتِ قد نسيتِ؟

كان وعدًا.. كان حبلًا قد رميتِ..

وحين مددتُ يدي.. شوقًا إليكِ..

وجدتِ مقلتيّ تهرب من مقلتيكِ

فحزنتِ وابتعدتِ.. وانتهيتِ..

أتراني خنتُ وعدًا؟

أم أنّكِ أنتِ الوعود قد نهيتِ؟

إنّني في وحدتي أشتاقكِ

إنّني في خلوتي أرنو إليكِ

رحلتي.. أيّتها الطّريقُ الوعرة."

استفاقت ليا فوجدت نفسها ملقاة على سجّادة الصّلاة، قد أنهكتها المشاعر الّتي تدفّقت من جديد..ولم تتوقّف فيها مرّة عن النّبض، بل كانت مخدّرة بالتّعب اليوميّ والمسؤوليّات الكثيرة. فقد أخذت على عاتقها مهامّ صعبة، وكانت تؤمن أنّها قربان تلك المحبّة، تلك المعرفة الخالدة الّتي لا يمكن أن تُسكب إلّا في كأس واحدٍ طاهر وشفّاف.

القمّة

    أعاد الله ليا إلى الطّريق، بغير إرادةٍ منها أو سعيٍ، أو هي تظنّ ذلك.. ذلك الطّريق الّذي أصبحت وعورته لذيذة كالشّهد، فمضيّ السّنوات الثّلاثين ومعها سبع لم تك بتلك السّهولة، وما ذاقته فيها من المرارة جعلها تستطيب الحنظل وتساويه بالعسل.. وهنا تذكّرت قول الجدّة-الشّجرة فأرسلت لها تحيّة روحيّة، وسرعان ما ردّت الشّجرة التّحيّة من أبعد مكان على وجه البسيطة.

لقد عادت ليا إلى الطّريق ومعها صديق وأصدقاء، حبّ ومحبّة، خلاص وإخلاص، لقد تمثّل الرّوح القدس في فكرها هادئا كبحيرة ساكنة، وقفت في أعلى القمّة فإذا بها تتنشّقُ الهواء، انفرد ذراعها، انبسط كفّاها كزهرة لوتس، انتصبت قدماها فوق إصعبين، ومالت مع قرص الشّمس في رقصةٍ رائعة الحسن والجمال.. وما توقّفت إلّا مع أفولها في كبد البحر وهنا فتحت عينيها على بدرٍ مكتملٍ وكأنّ الأيّام الماضية بأعوامها الثّقيلة لم تكُ سوى دورة قمريّة واحدة، وكان القمر فيها أروع ما يكون. بدرا ساطعًا نقيّا كالبلّور حوله نجمات متلألآت.. في وجهه السّاكن رأت المعرفة والمحبّة تنسكبان معًا، أغمضت عينيها من جديد، فشربت من ذاك الكاس حتّى ارتوت بالتّمام.

 

رقصة الحياة

    لقد ظنّت ليا أنّها ستكون راقصة باليه يومًا ما، وحزنت من أعماقها حين أدركت أنّ حلمها محكوم عليه بالموت والفناء، فحياتها تختلف عن حياة أولئك الرّاقصات.. أو هكذا ظنّت، لكنّها أدركت في هذا اليوم أنّ تلك الرّقصة كانت أبعد من أن تكون رقصة عاديّة، إنّها عروجٌ في سموات العرفان وبين المعرفة والنّون قلمٌ لا يكتبه إلّا مبدع واحد.

تمامًا كما "ظنّت زليخة أنّ عشقها ليوسف محض شهوةٍ وخطيئة وما كان إلّا تخلّي ونبوّة ومقامٍ محمود."

 

  المرآة

مرآة

 

ميّاسة القدّ تمشي على وجلِ
خفّاقة القلب والعشق يكويها 
لمتيم أمضى من طائر الحجل
حين رأته بالنّبل صار يرميها 
عانقت سهم الوداد بالطيش والعجلِ 
كيما يضيع حبّ أحيا الهوى فيها 
قالت يطيب الجرح ومثله أجلي 
إن كان مثواي أرض أنت تحويها 
ذاقت عشق الإله صاحت أواخجلي 
هذا من روحي بالحب كان  يغذيها 
لهو وجودي كله ومنتهى رغبة الأُوَلِ  
وأنت من صفوة  نطقت بعض معانيها
مرآته وجه أنت تملكه وحنانه كلمات أنت تحكيها

فلا حزنت روح أنت تحرسها ولا ماتت نفس أنت تحييها


 

محتوى المقال (انقر للتنقل)