كعادتي كلّ
مرّة، أُخبركم متى أكتب، كيف وأين أكتب....
وهذه المرّة أنا مفصولةٌ تمامًا عن الكون، مقطوعةٌ عن العالم... أطيرُ في مجرّةٍ هادئةٍ بلا صخبٍ طيرانًا حرًّا لا يمكن أن أصفه أبدًا مهما حاولتُ، والضّحكةُ المُنعِشةُ تخترِقُ بكلِّ حريّةٍ مجاري تنفّسي وتُلهمني كي أدوّن التّالي....
أنتَ مُذهِلٌ أيّها الشّابُّ لأنّكَ تعيشُ في عصرٍ مُماثلٍ، في بلدٍ أشبهُ بحُلُمٍ يجتاحُ مُخيّلة عاشقٍ جَموحٍ يهوى المُغامرات المجنونة ...
بلدي، يا حُلُمَ كلِّ سائحٍ ملّ من الغُنجِ والدّلالِ،
عُدْ إلى
هنا، إلى عالمِ الشّرقِ، ودعْ عنكَ سمفونيّةَ الغربِ الكلاسيكيّةِ الرّتيبةِ، أدخلْ
معي إلى المقاهي الّتي تعجُّ بأكوابِ القهوةِ المُرّةِ، أو تلك الممزوجةِ بالحليب
المكثّف المحلّى، واسمعْ قرقعةَ النّارجيلةِ على وقعِ ضرباتِ الحزن الّتي تعمرُ
كلّ قلبٍ وتجعله هكذا....كائنًا فريدًا، ظاهرهُ مُنفّرٌ وباطنهُ لذيذٌ ومنعشٌ!
فالهجرةُ أضحتْ داخليّةً بكلّ المعاني، وصارتْ غرفتنا هي مركبتنا تقلّنا حيثُ نشاءُ، ووقودُنا حبرٌ موصولٌ بالذّاكرةِ والحبّ وكلّ المشاعر الدّفينة.
أسمعُكم تسألون: ما القصّة اليوم؟
كلّمني عبر
الهاتف وقال: أأنتِ جاهزةٌ لنزهةٍ قصيرةٍ عبر الأطلسي؟
تفاجأتُ من
الطّلب ومن المسافة اللّامعقولةِ مع التّوقيت المضروب! وأجبته:
-
وهل هذا ممكنٌ أم هو خاطرٌ فحسب؟
-
منذُ متى وأنا أدوّنُ الخواطرَ، تلك مهمّتكِ أنتِ، أمّا عنّي،
فلا أُجيدُ سوى السّفرِ فإن كُنتِ مستعدّةً أخبريني اللّحظة!
ضحكتُ بجنونٍ:
-وكيفَ أرفضُ عرضًا مُماثِلًا، وأنا الّتي لمْ تعبرْ
بعدُ شاطئ بيروت ولا ميناءهُ؟ كُلّي انتظارٌ، فقط أشرْ إليَّ لأنطلق برفقتك...
ولكن أخبرني ... كيف؟
وسرعان ما حطّ طائرٌ يُشبهُ اليمامةَ لكنّه أضخمُ بكثيرٍ، أزرقُ، فاقعُ الزّرقةِ، يُبهجُ العين ويسلبُ اللّبّ...
- أهو طائرُ الفينيق؟ سألتهُ بذهول.
-
ما رأيكِ بالمحيط يا جميلتي؟
-
وكأنّي رأيتُهُ مرّاتٍ عدّةٍ، توهّمتُ كثيرًا عندما
ظننتُني لم أسافرْ بالمرّة، فهو يُشبهُ ما رسمتُهُ في مُخيّلتي تمامًا ...
تمامًا...
-
ألستِ سعيدةً إذًا؟
-
بالقدرِ الّذي تجتاحني فيه الفرحةُ عندما تحلّقُ بي
أُرجوحتي في الحقلةِ فتسرق قدمايَ الرّيحُ ولا تُعيدُهُما إلًا بعد مدّة!
- إلى أين تُريدين الذّهابَ بعد عبورِ المحيط؟
وبعد هنيهةٍ، حطَّ الطّائرُ فوقَ جزيرةٍ خضراءَ، وسطَ
المحيطِ الشّاسعِ، فازدادَ الهواءُ الفارغُ حضورًا ومساحةً في فؤادي حتّى أوشك ان
يتوقّفَ عن الخفقان! فخفتُ لبرهةٍ ثمّ تمالكتُ روحي بعد أن أغمضتُ عينيَّ قليلًا
عن هولِ المشهدِ الشّاسعِ...
رحنا، أنا وهو نتنقّلُ في فيء الأشجارِ الوارفةِ، فإذا بها عملاقةٌ
حتّى حدود السّماء، فسألتهُ:" أيّهما أشدّ إدراكًا برأيكَ، الشّجر أم البشر"؟
فأجاب:" هذا يتوقّفُ على مدى معرفةِ الشّجرِ بالبشر،
فإنْ فاقت معرفة الشّجر بالبشرِ إدراك البشر لها، كانت هي الأعلم والعكس صحيح.
-
أظنُّ الشّجر إذًا أعلمُ بكثيرٍ طالما أنّها تسطّر كتاباتنا
وتُشبعُ جوعنا وتعانقُ أجسادنا المُترفة بالحركة الزّائفة، انظرْ لها كيف تستمدُّ
اخضرارها من الشّمسِ والتّربة والماء وتُصارعُ الرّيح والهواء ثمّ تُشعلُ كلّ ما
صادفته إذا ما لفظت أنفاسها الأخيرة... إنّها فعّالةٌ، تُحيي وتُميتُ...
-
أولسنا مثلها نُحيي ونُميتُ؟
-
بل نستطيعُ لو شئنا أن ننفخ في رمادها فيصير طيرًا
كالّذي يحملنا الآن، ولكن مشيئتنا تلك مسلوبةٌ بفعل أنفسنا القاصرة عن أيّة إرادة،
لقد وهبنا الله مقدرته، فرفضناها، وأودعنا معرفتنا عُلبًا مختومةً بختم أمراء
نصّبناهم نحنُ ليعلّموننا متى نفكّر وكيف نفكّر...
-
نعم يا عزيزتي، هم لا يجرؤون على القيام برحلةٍ مماثلةٍ
فوق جنحِ طيرٍ خرافيٍّ كالّذي يقلّنا الآن سويًّا، لأنّهم استووا في مملكةِ الأرض
وأعجبهم مكوثهم فيها عبيدًا لآلهةٍ نصّبوها وقدّموا لها القرابين والهدايا ،
ولماذا ... أتعرفين؟
-
نعم.... ليتمتّعوا بالهناءةِ! هناءة الرّاحة الزّائفة،
فلا هناءة حقيقيّة سوى بالوصول إلى تلك المقامات الرّفيعة بعد سلوك الدّربِ الطّويلِ
الشّائكِ، برًّا، بحرًا، جوًّا ... لا يهمّ.. فالمهمّ أن نتعثّر كثيرًا وتثخننا
الجراحاتُ كيما نستلذّ طعم العسل وقت القطاف!
-
أظنّ رحلتنا شارفت على النّهاية أيّتها العزيزة.
- نعم، سنعودُ أدراجَ الرّياحِ، إلى حيثُ تمكثُ الكواكبُ في سمائنا منتظرةً أصوات تأمّلاتنا الصّامتة.
تنهّدتُ... يا لها من متعةٍ أن تزور الكون وأنت على مقعدك... وذاب الطّائر الخرافيّ الجميل في دوائر تلك الغيمة وراحَ يكتب كلمات غير مفهومة...
باتت الحياة حلما بعيد المنال
فوق ريشه سفر
يدوم
والبلاد بُعد
الشمس
والقلبُ عمق
محيط فيروزيّ
ينبضُ موجًا
متلاطمًا
دوّامة الشرق
لعبة أطفال
كعروس في
ملاهي المدن
تدورُ فينا
بلا اتّجاه
باتت الحياة
يومًا قاسيًا
موتًا ينشده
الجميع بلا إرادة!
مخدّرةٌ
مشاعرنا بفرحٍ مكتوم
والحزن أقصى
الروح
لونُ التّعاسة
قوس قزح
فنحن الربيع
العربي أليس كذلك؟
لا لم يعد
الفرح قناعا
أيّ غبطة أصدق
من الفناء
بتنا الفناء
السّاحر ووجه القمر المكتمل
بدرا!
من غيرنا يحتمل
الحياة هنا؟
من مثلنا يعقد
مع الأمل عهدا يوميا؟
بين الدمار
والانهيار...والجوع والعبودية
بينها...تدوّي
أقلامنا بحريّة
ورغيف الخبز
يدور حولنا
في رقصة
شرقية- صوفية!
يوميّات
وطن-بقلم ليال
مساحة_وعي
اخترنا لكم من فيديوهات المساحة مع علي:
كن نفسك ولا تبالي- تقنيّة المرأة الهنديّة