Cookies management by TermsFeed Cookie Consent ستبقى قمري الممتدّ إلى ما لا نهاية

القائمة الرئيسية

الصفحات

ستبقى قمري الممتدّ إلى ما لا نهاية

منبع الحكمة

 ستبقى قمري الممتدّ إلى ما لا نهاية

أنا لستُ هنا لأحدد موعدًا للقاء جديد، أو حتّى لرحلة على جُنح خرافة...أراني خلف قضبان انتظار ليس ببعيد، أترقب بارقة أمل لا أشعر بها، أبتاعها لأبي مريض السرطان، فلقد زجّني في أملٍ ضعيف جدا، وفي فكرة موهومة سقطت من حمّى المرض،لكي أشتري له حُفنةً أخرى من الوقت المزعوم حياةً، ألم يكُ يعرف أنّي لا أجيد ركوب الآمال بعد...وقتها؟ وأنّ انتظاري هناك للطّبيب كان أشبه بدوّامة غضبٍ وانكسار؟


فأنا الطّفلة تعي أن لا أمل...أنّ الموت هو الشّبح الماثل في كل مكان...وهو ..يجترح لنفسه الضّعيفة أوهن المعجزات الّتي لا يؤمن بها بالأساس؟


يا لها من معضلة حمقاء، أن تزدري آلام أحبابك، بنيران الشّفقة، وبرودة الرضى...
أنا أعود كل مرة إلى ذاك المكان، وكأنّ أفكاري ما زالت عالقة، بسور البيت المقفل أمام وجهي، ومشاعري مُضرمةٌ بنار الوقت الذي أمضيته هناك دون جدوى، أتسوّل عودة خرافيّة، لرجل يُدعى طبيبا، كي يطبّب أوهام أبي، الذي زجّني، في زاوية الانتظار، حلقة العودة التي لم أنسها بعد...

إنّه الإدراك، الذي أعشقُ، والذي يفوق مشاعري كلها، أحبُّ الإدراك، يا ليته قال لي: تعالي يا ابنتي، اجلسي بقربي، في أيّامي الأخيرات، لأخبركِ عن الحقل قليلا، وعن موتور الفلاحة خاصّتي، احضري ذاك المشط، لأسرّح لكِ شعرك لآخر مرّة..
هذا لم يدُرْ وقتها حتّى في مخيّلتي، ولا أثناء طفولتي، هو ابني، قبل أن أصبح أمّا...وأنا سيّدة الوعي الصّغيرة التي أرهقها الفكر وأرّقها حتى حدود الفناء...كنت أرقبُ صمْت المشاعر، فأثور على  كل شيء... ثورة ساكنة ،صامتة ... يشوبها الحزن القاتل. 


يظنّ الآباء أنّه لا يجدر بهم احتضان أولادهم، وخاصّة البنات، إنها فكرة مترسّخة لديهم، تكرّسها الزّوجات بما اكتسبن من قسوة الحياة،ومرارة التّجارب... 
تندفع الأحاسيس إلى الدّاخل،كبركانٍ لم يحِنْ موعد انفجاره الكبير...



يتكسّر الحبّ على صخورٍ منيعةٍ، لم تتعرّفْ بعد على شيفرته المقدسة، وتستمر ضوابط الإرهاصات التي ثبّتها النّاس،والأهل، في تسيير قدرك لتخلق هيئة مقبولة للجميع، لا تمتلك أنت مفاتحها، لأنك ترفضها بشدّة، هي ليست نسختك الحقيقية...


أترى؟

أنت الذي جئت من مكان لا يشبه المكان

 ومن زمان الطّفولة المسروقة لتعيد المفاتيح لأبوابها، ولأستقبل نفسي، التي رأيتها في عينيك، وسمعتها في نبضك،ونبرة همسك، وذقت لطافتها من بين أصابعك، لقد لمستها عندما حضنتك ذات مرة، فوق جنح الطير...وشممت عطرك  العشبي...في الحقل هناك...أتذكر؟  حينها تذوّقت مشروبك الغريب المرّ قليلا...رائعٌ جدا...مختلف عن كل ما تذوّقه من قبل.

لا تبتعد كثيرا... أقسم لك بالرّبّ الذي أعادني إليك، أن أجد لك هويّة مقدّسة لا يشوبها الخزي ولا العار، ولا يطالك أو يطالني بعدها أي اتّهام باطل...هي مسألة وقت...
لقد جرّبت ذلك، ألم تسمع ما مرّ بي؟ ألم تشهد على وحدتي وساعات ليلي الطّويلة...لقد انقضت... وجئت أنت... 

لن تجيد الفرار من قدرنا، ولو كان حنظلا وسجنا... فما أطيب هذا الحنظل وما أفسح هذا السّجن، ففيهما العسل والحريّة...
أعي أنّ ما أقوله عسير ومبهم، لحدّ الجنون...
وأن لغتي تأبى تفسير تلك الجمل في قاموسها، فتلفظها كما يلفظ النّهر جذع شجرة مقطوع عن أمّه، يجري في مائه بسعادة، لكن ضفّة قريبة ستمنعه عن الجريان، ليموت على أرض معشوشبة، وهو ينزف ماء الحياة...
متى توقّف الجريان لن أعود كما كنت
سأستلقي، كما استلقى أبي على فراش المرض...يهلوس بالحياة،ولا يحتضن سكرات الموت، كي تشفيه من موته...ويعود كالعنقاء إلى جوارحنا، لنبكيه ألف مرّة بسعادة... هذا لم يحصل... 

أما لو بقيتَ، فلسوف أغمرُ شبح ملك الموت العظيم، بقلبي ووجداني، ليأخذني دفعة واحدة، أو مقطّعة أجزاء... لأنّني في حضرة حبّك سأعود للحياة مرة جديدة...


جلست في الحديقة كالبلهاء، أضحك وأبكي، أنا ماذا أفعل هنا؟
الوقت صباحا، والطبيب في المستشفى، ولن يعود قبل الظهر، كلّ الحقائق والأكاذيب ما كانت لتثني أبي عن مراده، أن أقف هذا الموقف، كمن يشهد يوم الحشر... والآن أفكر...لمَ لم أقصد أي منزل؟ منزل جدتي، جارتنا...لو جلست على شاهد قبر من قبور الجبّانة القريبة، وعدت بعد حين! ...لماذا ...لماذا...كنت صادقة لهذه الدّرجة، وعصرت كياني كلّه في قارورة الحقيقة المزعومة؟ أيجب أن ننصاع دوما لإمرتها؟ تلك الحقيقة الغبيّة المغلّفة بورق ملوّن، الّتي تفوح منها رائحة القهر والنّتانة؟ 

اه...كنت أودّ حقا أن يأتي الطّبيب، رغم أنّه لن يأتي، ليحقّق رغبتي أوّلا في الهروب من هذا الموقف، ولتذهب أوهام أبي إلى الجحيم...
أين المحبّة التي تسحر الألباب؟ والّتي تجعل الآلام عطرا من عطور الجنة؟
رحت أدور في حلقات الأسئلة،وقلبي متربّع عرش الصّمت، يهيم في مسارح الألوهة ولا يدري أنّه وفي انهزاماته الكبرى على موعد مع الفتح الأعظم...


لقد غادرنا، قبل أن يغادر جسده المنزل، وأنا كنت أشهد تشييع كلّ ذكرى بيضاء، شفّافة جدّا، لا ألوان فيها. ولأوّل مرّة يكون الأبيض عقيما لتلك الدرجة، منبوذا من ساح الرّحمة، يا للذّكريات التي لا تشبه الذّكريات، يا للأيام الخاويات من ضجيج الحنين، بعضها القليل يحمل عبق التراب، وأحاديث مقتضبة، وضحكات عدّها زمننا ودونها باهتمام على صفحة مشاعري، مرقّمة بعناية...فهي أندر من الماس... 


أعود إليك، ومعي أسراب من المشاعر المتضاربة بغير تناقض، حنين تلو الحنين...وفي غمار المحبّة التي تلف كياني، أشتاق لأبي، ولكم أحبّ ذلك، أنا سعيدة بهذا الشّوق، تنهمر الذّكريات القليلة على كياني وحدها، كلّما امتثل في حلم يقظتي  فأشعر بالامتنان،وأشكر الله على ذلك ولا أراه قليلا، بل أكثر مما يستحقّ المُحِبّ، وأوسع مما يبتغي، فأدرك أنني في ساح المحبّة، لقد وصلت لأمانها العظيم...
لي زوج وأولاد وأسرة، آه كم أحبهم... لقد نذرت أيّامي لهم، وكل تلك المحبّة العظيمة هي مشربهم، فلينهلوا منها متى شاؤوا وليرفدوا آماقها العميقة،التي حفرها الألم بعناية، وسكب فيها أمانا وطمأنينة...
ولي أنت...نهر جرياني ومنبع تلك الحكمة. أترقرق في مائك بوداعة، فلا فِكر ولا آلام...تصهر الخوف بعصاك السّحرية، فيلمعُ الحاضرُ كشمس تحرق كلّ أوهام ما انقضى.

أعرفتَ ما أنت ومن أنت...
لن أقيّد خطواتك الجريئة بأيّة سلاسل، فقد حطّمتُها للتّوّ دون شفقة،ولن أعقد معك أيّة صفقة، فلقد مزّقتُ قُبيل أيّامٍ كلَّ العهود والمواثيق القديمة، ولو غادرت فسأباركُ لكَ ذاك التّحرُّر النّهائيَّ منّي...


أما عنّي، فأنا الّتي ستحرس نجوم ليلك بعناية...

وستبقى قمري الذي يمتدّ إلى مالانهاية.


اخترت لكم فيديو شعري من مساحة وعي





محتوى المقال (انقر للتنقل)