Cookies management by TermsFeed Cookie Consent الخوف من الموت في عالم النثر والتأمل

القائمة الرئيسية

الصفحات

الخوف من الموت في عالم النثر والتأمل

 

هل تخافُ الموتَ؟

هل تخاف الموت؟


أنت تصغي للموسيقى عندما تكونُ الألحانُ خارجك                                                          

تسمعها من مسافة أذن، من مسافة قلب، من بُعدٍ معيّن يفصل بين النّبض وانعدامه، بين التّنفس والموت أنت هناك لاشيء يُذكر.. مجرّد استماع وفرح لطيف يمضي كما تمضي فراشة لطيفة فوق زهرة وسرعان ما تنسى رائحتها وشكلها ولونها.. نسمة وهبّت، لمست خدّك وغابت، بينما استمرّت الحياة ككلّ الأشياء..

أتعي متى تشتهي الموت إذا ولا تجده؟

أتعي كيف تشعر بالموت وأنت ما زلت هنا؟

أتعي ما الّذي يُبقيكَ في نفس المكان وقد غادرته بالفعل دون أن يعي أحد غيرك بذلك؟

اسمعني إذًا لأروي لكَ متى وكيف وما الّذي يجعل المرء ميتًا ممزّقًا كورقة خريف مهشّمة، رقيقة حدّ الرّهافة، هشّة حدّ الحطام، واهية حدّ العدم!

يموتُ المرء حين تحترقُ الأقنعة الّتي رسمها الزّمن ساعة تلو السّاعة.  يظنّ نفسه حيًّا، يأكل، يشرب، يضحك، يبكي.. فإذا به ظلّ غريبٌ لرجل لا يعرفه أو لامرأة لا تكونها.

يموتُ عندما يتحرّكُ قلبه السّاكن في العدم لدهور، قلبٌ لا يزوره النّبضُ إلّا في لحظاتٍ متسارعاتٍ لا توقيت لها.. نادرةٌ بجنون، تتعرّض للنّسيان كما تتآكلُ الجبال بعوامل الوقت.. بهدوء دون انجراف مباغت بفعل تيّار أو طوفان..

يموتُ المرء عندما يأتي الطّوفان هادرًا كالقيامة، يرسلُ ملائكته لتنذر الكون الصّغير أنّ أجرامك قد تهيّأت للنّور فهيّا أطفئ قناديلك الباهتة واستعدّ..

يموتُ عندما يضيء حتّى يبتلعه النّور تمامًا فلا يبقى مجالٌ للعتم، وهنا يُشرقُ الحبّ بأقسى صوره صافيًا كالبلّور، واهيًا كالخيال.. كلّما لمسته بأناملك ابتعد وكلّما ابتعدت عنه اقترب..                                    

حبٌّ يشتعلُ فيك كالبركان، يمحو كلّ ظواهرك السّابقة، يلغي هويّتك المعتادة..تسأل نفسك: من أنا؟ ويتردّد الجوابُ في السّماء:

" أنت كلّي"

كم من الشّجاعة تستدعي تلك الشّساعة..فهل أنت بحرٌ تجدف فيك آلاف السّفن كي تتحمّل الأمواج العاتيات؟ أأنت غابٌ كي تحضن آلاف الأشجار الباسقات وتمتدّ فيك جذورها للعنق.. تختنقُ بهوائك وتشتاقُ لمداكَ الضّئيل كي ترتاح لبرهة..لكنّ شوقًا فيك حقيقيًّا جدّا ينجرفُ مع امتدادك الفجائيّ مع وَجْدك الرّاهن الآسر.. كما لو أنّك ساحر اللّحظات الجديدة.

تموتُ أنتَ عندما تبقى مكانك وقد غادرته بالفعل دون أن يعي الآخرون بذلك.. ضحكاتك لم تعد كما كانت، فما يضحكك الآن لفتةٌ من عين كونك الرّحب، وبسملةٌ على شفاه صبحك الّذي ولد فيك، وآهاتُ ليلٍ دامسٍ يصحبُك لصَحْبك الّذي يجاريك حبّا وتماثلا.

تمشي وحدك فتحسّ أنّك محفوفٌ بالجميع، وعندما يقتحمك الزّحام تغتربُ وتحزن.

تبكيك بسمة القمر ويُضحكك دمعُ يتيم فقد أباه للتوّ..

تموتُ عندما تدركُ الفرق بين الصّلاة والرّكوع، بين السّجود والخنوع، بين الألوهة والخضوع.. تموتُ عندما تسلّمُ الرّوح فتعود روحك من جديد..

أنت تموتُ تمامًا حين تحيا، حين تدركُ الله، حين تعشقُ الله.. تقول ماذا ينفع الوجود هنا بعدُ.. طوبى لأهل السّماء كيف تألقوا نجومًا بين الكواكب، فها هو المقداد على مشارف الأكوان يشعّ من بعيد.. ونحن أهل الأرض نتخطّى أرحامنا السّبع ببطء السّلحفاة، لم نجتاز بعدُ دروبنا.. هيهات هيهات أن نلمس بأطراف أهدابنا ما وصل إليه المخلصون..

تموت حين تسأل: أخيانة أن نعشق السّماء ونذَرَ أهل الأرض؟ يتجاذب قلبنا حبّان، الأوّلُ إخلاصٌ لترابنا، لأرضنا، للسّنابل الّتي أفرخت قبل عدّة حقول وبُعيد أمطارٍ وأمطارٍ انهمرت.. والثّاني إحساسٌ وانسكبَ في خمرة الشّريان، وتعتّق بلا عامل الزّمان.. يشدّك كي تعلو، وما إن تفعل ذلك حتى تمزّقكَ المسافات،فلا أنتَ هنا ولا أنتَ هناك!

على شرفةِ منزلنا، سنرقبُ البدر كل شهر يستديرُ، سنلمحُ النّجوم بأشكالها العديدة تتراقصُ حوله بأضوائها الخافتة، وحين نغمض أعيننا سنسافر حتمًا إلى هناك.. من قال أنّ الموت قبيحٌ أو مخيفٌ.. سنعودُ يومًا إلى دارنا الّتي تركنا، لنرى بعد الموت أحبّتنا الّذين تركنا، قد لا يروننا بنفس العين، لكنّ رؤية القلب أشدّ وضوحًا ممّا نظنّ.

أنتَ راعٍ سارحٌ في المدى الأخضر، أجراسُ القطيعُ تقطعُ حبل الوقتِ المسموم بالأوهام..فلا وقت هنا..

أنتَ بتلةٌ تركت وردتها وتهادت ببطء يوازي قرونا قبل أن تحطّ على عشب نديّ، فيدغدغها وتضحك حتّى الثّمالة..

أنتَ دمعةٌ هربت من عينِ عابدٍ رأى الله، فهَمَتْ فوق نار الكره المضطرمة في كلّ مكان..هنا تشتعلُ.. هناك أيضًا.. لكنّ الدّمعة أخمدتها فسكنت..ثمّ طيّرت نسمة خفيفة كالرّيشة رمادها فتلاشى .. كما يتلاشى العتم مع أوّل خيوط الفجر..

أنتَ لحنٌ قفزَ من خفقان قلبِ محبّ، عشِق دون أن يدري، فانسكبت نغماته في آذان المنصتين في حضرة التّأمّل فأسكرتها عن آلامها المنسيّة..

أنتَ كلمةٌ تركتْ جملتها في مقطعِ دعاءٍ ملكوتيّ سريٍّ.. وحين سمعها الكون الصّاخبُ صمتَ وأصغى لحضرة الصّمت العظيم..

فهل يرهبُ الموت بعدها من اشتاقه.. ولم يجده إلّا في سويعاتِ السّعادة والثّمالة والعدم؟

 بقلم ليال عاصي 

مساحة وعي

 

محتوى المقال (انقر للتنقل)