ها قد أقبل الخريف محمّلًا بنسيم أيلول
ورائحة أوراق الشّجر والتّراب إثر المطرة الأولى.. هنا تنسجم النّفس مع تلك الأجواء وتلك الرّوائح لتأخذنا
نحو الدّاخل من جديد في رحلة دافئة مع رغبة عميقة في الـتّقألم مع هذه المشاعر
المستجدّة من الهدوء والتّأمّل في جمال الألوان التّرابيّة وإلقاء تحيّة الوداع
على صخب الصّيف واندفاعه الجريء.. ونحن في تلك الرّحلة المستجدّة أكثر ما نحتاجه
هو أن نتأمّل تلك اللّوحات الطّبيعيّة كي تساعدنا على الانتقال المريح من مرحلة
لمرحلة دون عناء ذلك أنّ الطّبيعة هي الدّواء.. فما رأيكم أن نترك أنفسنا تقوم
وحدها بتلك المهمّة!
إنّ الـتّأقلم مع الأجواء الجديدة لا يحتاج
منّا سوى ترك الأمور تجري على سجيّتها ببساطة وهنا يكمن السّرّ بهذه البساطة ..
وقد اخترنا لكم من مساحة وعي موضوعا يرتبط بدخول
فصلي الخريف والشتاء ألا وهو (فنّ الكروشيه) على أمل أن ينال إعجابكم ويرضي
أذواقكم ويساعدكم على التّعرّف أكثر على هذا الفنّ الجميل.
الكروشيه فنّ أم حرفة؟
تعدّدت
وتباينت أنواع الفنون منذ القدم وكلّها تقريبا كانت تجمع بين خاصيّة الحرفة وخاصيّة الفنّ هذا عندما يكون هذا الفنّ عملًا
يدويًّا بإضافة الطّاقات الفكريّة والإبداعيّة المطلوبة حتمًا ليُسمّى فنًّا من
الفنون. وهكذا يكون "الكروشيه" عملًا فنّيًّا-حرفيًّا بسبب توفّر
تلك الشّروط. فما هو فنّ الكروشيه؟ ما أدواته؟ ما هي أشكال انتاجه؟ إلى متى وإلى
أين يعود تاريخه؟ علاقته بالتّأمّل. أهمّيّته على الصّعيديْن الحسّي والنّفسيّ. هل
يشكّل حاجة حقيقيّة؟ كيف؟ مع شواهد من الواقع. كلّ هذه الموضوعات وأكثر سنتعرّف
إليها لندخل إلى عالم "الكروشيه" في هذا المقال.
ما هو فنّ الكروشيه؟
إنّ
فنّ "الكروشيه" هو فنّ يدويّ حرفيّ بامتياز كما ذكرنا في بداية المقال،
ينطلق من لعبة فكريّة رياضيّة اساسها حبك الخيوط والعقد الصّوفيّة والقطنيّة وغيرها
بواسطة "السّنّارة" حيث تبدع الأصابع في لفّ تلك الخيوط حولها بطرق
مختلفة لخلق الأشكال والمنتجات الرّائعة من ( أثواب، بُسط، أحذية، أغطية..)
وغيرها الكثير سنتعرّف إليها تاليًا. وهو بالتّالي يتطلّبُ ذوقًا فنّيًا ومهارة
وإبداع، إضافة إلى خصائص نفسيّة يتمتّع بها من يريد أن يحترف هذا الفنّ وأوّلها
"الهدوء".
أدوات أساسيّة للكروشيه:
1-
إبرة الكروشيه: ويوجد منها أنواع عديدة ( بلاستيك- خشب- ألمونيوم- ستانلس
) كما يُميّز بين المصري والتّونسي.. ولها قياسات وأرقام مختلفة، لكلّ رقم أو قياس
لها استخدامها المميّز لهذه (القُطبة) أو تلك.
2-
خيوط الكروشيه: وهي تختلف حسب أمرين:
أ-من حيث
المادّة المصنّعة منها: فيكون لدينا خيوط الصّوف، اكليريك، القطن، الكليم، موهير،
ميكسات بين أنواع مختلفة) وهي مناسبة بذلك لجميع الفصول حسب النّوع الرّقيق فالأسمك.
ب-من حيث
السُّمك: تتدرّج من الرّفيعة جدًّا وصولًا إلى السّميكة منها والعريضة.
3-
ماركر أو دبابيس: تُستخدم في تحديد على سبيل المثال غرزة البداية أو أيّة
غرزة معيّنة نودّ الوقوف عندها والعودة إليها لاحقًا لإكمالها. وهكذا لا يضيع
العمل أو يُفكّ بأيّ حال من الأحوال.
4-
إبرة التنظيف: وهي اسم على مسمّى إذ تستخدم لتنظيف العمل من الخيوط
الزّائدة وتقفيله بطريقة احترافيّة.
5-
المقصّ: وهو لقصّ الخيط بعد نهاية أيّة مرحلة من العمل.
منتجات الكروشيه
تكاد منتجات عمل الكروشيه تذهلك لدقّتها
وجمال فنّيتها فهي تنمّ عن جهد وصبر طويلين للعمل ساعات طويلة من أجل خلق وإبداع
قطعة فنّيّة معيّنة نحتاجها لإضافة لمسة جماليّة على مظهرنا أو على ديكور المنزل،
لذلك تتعدّد انتاجاته كثيرًا ومنها:
1-
الملابس: إنّ معظم جدّاتنا حكن لنا أثوابنا ونحن أطفال بأناملهنّ الحنون، فملابس
الأطفال وخاصّة الصّوفيّة منها معظمها كان قديما ينسج يدويّا بواسطة السّنارة والخيط.كما
يحتاج عمل معطف أو سترة من الصّوف أو القطن عبر السّنّارة وقتًا غير قليل ولكنّ
النّتائج مبهرة خاصّة إذا تمّ التّنويع في عمليّة غرز القطب هناك ترى أمامك لوحة
حقيقيّة تسرق الأنظار.
2-
القبّعات والشّالات: يرتبط الشّتاء بالقبّعة والشّال الصّوفيّين ارتباطًا
وثيقًا فما إن تبدأ بوادر الشّتاء تظهر حتى يهرع محبّو الحياكة لسنّارتهم لحياكة
أجمل القبّعات وأروع الشّالات. وإذا كانت القبّعة المحبوكة بالسّنّارة ترتبط قديما
بالشّتاء حصرا، فقد اختلف المفهوم مع ظهور العمل بخيوط القطن الصّيفي والكليم
الرائعين.
3-
الحقائب والأحذية (اللكلوك): أجمل الحقائب النّسائية على الإطلاق هي تلك المحبوكة
بالخيط والصّنارة ولا سيما مع ظهور أنواع جديدة وثمينة من الخيوط ممّا يجعل
الحقيبة تحفة فنّيّة أخّاذة تتوق الفتيات لاقتنائها مهما غلا ثمنها، إذ أنّ تلك
القطع الفنّيّة الفريدة تكون أحيانًا باهظة الثّمن لما تكلّفه من عناء وجهد كبيرين
من أجل إخراج هكذا قطعة ناهيك عن سعر الخيط الذي يختلف حسب النوعية والجمالية. وقد
دخل عمل السّنّارة في عالم الأحذية أيضًا ليس فقط (اللكلوك) بل أيضا أحذية للكبار
بأشكال عديدة توفّر الرّاحة والجماليّة والفرادة على السّواء.
4- كروشيه للتّزيين المنزلي: وهنا لا مجال أبدًا لأن يتوقّف خيالك عند حدّ بدءًا بالأغطية الرّائعة الّتي تزيّن الطّاولات، والكنبات والمقاعد، وصولًا للبسط الّتي تترواح أحجامها من الصّغير إلى البساط الكبير الّذي يغطّي كامل أرضيّة الغرفة وصولًا إلى أشكال في منتهى الدّقة في تزيين أُطر المرايا، والصّور واللّوحات، حتّى أنّ عمل الكروشيه يدخل في حياكة القطع الخاصّة بكلّ قطعة من أثاث المنزل، والمطبخ، فهناك الكروشيه لتزيين مطرات الماء وسهولة حملها، للهواتف، أيضا هناك القطع الخاصة من الكروشيه السميك (كوستير) لوضع إبريق الشاي مثلا أو كوب القهوة السّاخن لمنع وصول الحرارة إلى الطاولة.
ولا يكاد يخلو أيّ تفصيل من تفاصيل المنزل من إمكانيّة إدخال حياكة الكروشية لإضافة تلك اللمسة الإبداعية الدّقيقة جدّا والهادئة بشكل جذّاب.
وحدها الصّور بإمكانها أن تخبركم عن مدى الأفكار الّتي يُمكن أن تدخل في عالم الكروشيه الواسع إلى اللامحدود من الخيال.
صور لأشكال ومنتجات مختلفة من الكروشيه تحكي عن كميّة ومدى الإبداع في هذا المجال:
تاريخ الكروشيه:
يعود تاريخ هذا الفن وبحسب تسميته إلى
الثّقافة الفرنسية ((crochet وتحديدًا إلى بداية القرن التّاسع عشر في أميركا وبريطانيا وفرنسا
وتمّ اعتماده كبديل عن الدانتيل المكلف جدًّا.
هل تعرفون أنّ أوّل من بدأ العمل بهذه الحرفة
(الرّاهبات) في الفترة الواقعة بين 1500 و1800 قبل الميلاد ومنهنّ انتقلت هذه
الحرفة إلى سيّدات الطّبقة الغنيّة ثمّ إلى الخادمات آنذاك وتوسّعت لتنتشر في
أوروبا كافّة.
ورغم أنّ التّسمية الفرنسيّة لتلك الحرفة أعطتها الطّابع الأوروبيّ المنشأ، إلّا أنّ التّاريخ يُثبت وجودها كنوع من أنواع التّطريز في تركيا وبلاد فارس والهند وشمال أفريقيا ليتطوّر مع الإبر الصّينيّة ليصل إلى شكله النّهائيّ الّذي نعرفه اليوم مع تسمية كروشيه والّتي تُشتقّ من كلمة croche، croc وتعني الإبرة. إذًا هي بدأت في مناطق الشّرق الأوسط وانتقلت بعدها إلى الحضارات الأخرى.
علاقة فنّ الكروشيه بالتّأمّل
إذا عدنا إلى التّاريخ نجد أنّ أوّل من بدأ
بحياكة الخيوط بالسّنّارة هنّ الرّاهبات! ولا يخفى على أحد أنّ هؤلاء إنّما يسلكنَ
حياةً تعبّديّة خالصة بعيدًا عن ملذّات الحياة وحاجات الجسد وهذا يُشير إلى
أهمّيّة الحياكة في التّدرّب على الصّبر والهدوء للوصول إلى الهدف، والابتعاد عن
العصبيّة والتوتّر والقلق الّذي لن يجدي نفعا مع فنّ الحياكة.
التّأمّل هو العودة إلى الذّات والتّبحّر فيها لامتلاك القدرة على
قيادتها تمامًا كما يجيد القبطان إدارة دفّته بعدما يُتقن فنّ مقارعة الأمواج
بالتّناغم مع العاصفة الهوجاء والسّير معها كي لا تتكسّر خشبات المركب ولا ينفلت
شراعه ولا يغرق راكبوه.
إنّ فهم الذّات يحتاج إلى تأمّلها أوّلًا
والصّبر على معاركها والهدوء في تفكيك الرّموز المعقّدة لتبسيطها فما أروع
(الحياكة) في عزفها سمفونيّة الخيوط على وتر السّنّارة إثر ضجيج الفكر واختلاج
الشّعور الّذي سيتدفّق تدريجيًّا ويتحرّر من سطوة الشّكّ وسجن الخوف ليبحر في
عوالم الإبداع.
أهميّة حرفة الكروشيه من النّاحية الاقتصاديّة والاجتماعيّة
بما أنّ الكروشيه حرفة فنّيّة فهذا يعني
أنّها منتجة ومساعدة لسد الحاجات الاقتصاديّة الضّروريّة لاستمرار الحياة. إنّها
حرفة مدرّة للمال بشكل كبير لدرجة أنّها شكّلت فارقًا في ظل الأزمة الإيرلنديّة
الكبرى بين عامي 1845 و 1849 بعد أن شاركت كلّ فئات المجتمع في امتهان هذه الحرفة
لحل الأزمة المعيشية وتأمين قوت اليوم.
وخلال مقابلة خاصّة مع السّيّدة عبير عاصي
الّتي تعلّمت هذا الفنّ من خلال قنوات اليوتيوب عبر فيديوهات تعليميّة لتصبح
الحياكة لديها هواية وفنّ وحرفة حقيقيّة تقول في هذا المجال:
" لقد أصبح لديّ مدخولي الخاصّ بعد أن
كنت ربّة منزل، بدأت بتعلّم الكروشيه كهواية ولكن بعد مدّة أصبحت بارعة في هذا
المجال بشكل لا يُصدّق، وبدأت طلبات العمل تنهال عليّ، وكلّما حكت قطعة من القطع
الّتي تعنيني كثيرًا، زاد الطّلب، وتشجّعت..
في ظلّ الوضع الاقتصاديّ الصّعب اليوم وجدت
أنّني أساهم في مساعدة من هم غير قادرين على شراء الهدايا الباهظة الثّمن من
المحلّات التّجاريّة، فكنت أشعر بالسّعادة عندما أقدّم تلك الأغراض الّتي تحاكي
مشاعري بشكل عميق، بأسعار تراعي الجميع،
كما فرحت من جهة ثانية عندما صرت امرأة منتجة
أشعر بالاستقلاليّة الماديّة وبالتّالي ذقت طعمًا رائعًا للحريّة، الكروشيه هو
عالمي الخاصّ الّذي يجمع بين الفنّ والعطاء."
أهميّة الكروشيه من النّاحية النّفسيّة
بدأنا بعلاقة الكروشيه بالتّأمّل لنكمل ونقول
أنّ الكروشيه هو تفريغ نفسي حقيقي للأفكار والمشاعر فهو من الحرف الّتي تتداخل مع
الفنّ كباقي الحرف وأكثر بقليل فهي قريبة للرّسم والنّحت والنّجارة وسواها من الاعمال
اليدويّة الّتي تبرهن أنّ الإنسان كتلة من الإبداع وأنّ أنامله تلك إنّما هي عصا
سحريّة تستطيع أن تحوّل الطّين إلى بشر لا تنقصه سوى الرّوح.. إنّ الحياكة
كالكتابة ولكن بالسّنّارة بدلًا من القلم وبالخيط بدلًا من الحروف، فما الّذي
يميّز بين ريشة وإزميل.. بين ألوان وخيوط وحجارة وأخشاب ..
ما الّذي يميّز بينها إن كان المبدع واحد
والخلّاق فكر وشعور وهّاج.
يساعد الكروشيه أصحاب العلل والأمراض في
البراء من أمراضهم وعللهم، ومن الّذين دخلوا بحر القنوط في الخروج إلى برّ الأمان،
تستطيع الحياكة أن تكون (علاجًا نفسيّا) فعّالًا يتيح لك تجربة (الهدوء والرّاحة
والسّكينة).
وتُكمل السّيّدة عبير وفي هذا المجال
تحديدًا:" لقد مررت بأوقات صعبة، وامتحانات غير هيّنة، لم يجدِ الغضب نفعًا
ولا التّذمّر، فالواقع واقعٌ لا محالة، وجدت الرّضى، الصّبر، السّعادة الدّاخليّة،
الهدوء خير دواء لمواجهة أيّ تحدّي، وبعد تجربة الكروشيه، صرت أقوى بهذا الهدوء،
أشعر أنّني أمتلك الكثير من النّعم، وأشكر الله على ذلك كثيرًا."
خاطرة من خيطان
عبير
أيّتها الخاطرة الحلوة الّتي تحلّق في الفكر
كوني كتلك الألوان الّتي تبشّر بالرّبيع
كوني حلم الخريف الهارب
وإنذار الغيوم بالمطر
كوني قارب الصّيف الهادئ بعيدا
ألا تعرفين أنّك كاسمك عطر لا يفنى
ورق الشّجر ككفّيك وبوح الورد كتلك الأنامل
أما تعبت سنّارة العمر من حياكة الحكايات السّعيدة
من نبض الألم التأم جرحك كقطبة مخفيّة
يا لتلك الابتسامة الحزينة.. الحزينة..
إنّها تهزأ بكلّ الابتسامات السّاخرة
عبير
أيّتها الخاطرة الحلوة الّتي تحيك الفرح
حيكوا سعادتكم بأيديكم وازرعوا الابتسامة عبر ثغوركم فأنتم منبع الفرح الحقيقيّ
LpCoFU9yzpSpfbgcbSm7A